فصل: سنة إحدى وأربعين وست مائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **


 سنة أربع وثلاثين وست مائة

وفيها نزلت التتار على إربل وحاصروها وأخذوها بالسيف حتى حافت المدينة بالقتلى وغصب القلعة بعد أن لم يبق بعد أخذها شيء من الموانع وترحلت الملاعين‏.‏

وفيها توفي الملك المحسن أحمد ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب سمع الحديث وكتب الكثير وكان متواضعًا متزهدًا كثير الإفضال على المحدثين قال الذهبي وفيه تشييع قليل‏.‏

وفيها توفي الحافظ أبو الربيع الكلاعي سليمان بن موسى البلبيسي صاحب التصانيف وبقية أعلام الأثر توفي بالأندلس قال الأبار‏:‏ وكان قد فاق أهل زمانه وتقدم على أقرانه عارفاً بالجرح والتعديل ذاكراً للمواليد والوفيات لا نظير له في الاتقان والضبط مع الأدب والبلاغة وكان فرداًفي إنشاء الرسائل مجيداًفي النظم خطيباًمفوهاً مدركًا حسن السرد والمساق مع الإشارة اللائقة متكلمًا عن الملوك في مجالسهم مبينًا لما يريدونه على المنابر والمحافل ولي الخطابة وله تصانيف في عدة فنون استشهد مقبلاً غير مدبر في ذي الحجة‏.‏

وفيها توفي الناصح بن نجم بن عبد الوهاب الشيرازي الأنصاري الواعظ المفتي انتهت إليه رياسة المذهب بعد الشيخ الموفق وله خطب ومقامات وتاريخ الوعاظ‏.‏

وفيها توفي صاحب الروم السلطان علاء الدين السلجوقي كان ملكًا جليلاً شهمًا شجاعًا وافر العقل متسع الممالك تزوج بابنة الملك الكامل وامتدت أيامه‏.‏

وفيها توفي الملك العزيز غياث الدين محمد ابن الملك الظاهر غازي ابن صلاح الدين صاحب حلب وسبط الملك العادل ولوه السلطنة بعد أبيه وعمره أربع سنين لأجل والدته وهي كانت من الأتابك فنسوس الأمور‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن محمد بن أحمد البغدادي المحدث المؤرخ سمع من ابن الزاغوني وطائفة وأخذ الوعظ من ابن الجوزي وهو أول شيخ ولد مشيخة المستنصرية وآخر من حدث بالبخاري سماعًا من أبي الوقت وضعفه ابن النجار‏.‏

 سنة خمس وثلاثين وست مائة

وفيها غرمت طائفة كثيرة من الخوارزمية وكانوا قد خدموا مع الصالح أيوب ابن الملك الكامل على القبض عليه فهرب إلى سنجار فنهبوا خزائنه فسار إليه لؤلؤ صاحب الموصل وحاصره فحلق الصالح لحية وزيره وقاضي بلده بدر الدين السنجاري طوعًا ودلاه من السور ليلاً فذهب واجتمع بالخوارزمية وشرط بهم كلما أرادوا فساقوا من حران وبيتوا لؤلؤاً فنجا بنفسه على فرس النوبة وانتهبوا عسكره واستغنوا‏.‏

وفيها توفي الملك الأشرف صاحب دمشق موسى ابن الملك العادل وتسلطن بعده أخوه الصالح إسماعيل فسار الملك وقدم دمشق فأخذها بعد محاصرة وشدة وذهب الصالح إسماعيل إلى بعلبك‏.‏

ولما دخل الملك الكامل دمشق ونزل في قلعتها المعروفة بقن القلندرية والحيدرية وتمرض ومات بعد شهرين فتملك بعده بدمشق ابن أخيه الملك الجواد وبمصر ابنه العادل وملك ملك الأشرف نصيبين وسنجار ومعظم بلاد الجزيرة وغيرها وأول شيء تملك من البلاد مدينة الرحا ثم حران‏.‏

ولما توفي أخوه الملك الأوحد صاحب خلاط ونواحيها أخذ الملك الأشرف مملكته مضافًا إلى مملكته فاتسع ملكه وبسط العدل على الناس وأحسن إليه احساناً لم يعهدوه ممن قبله وعظم وقعته في قلوب الناس وبعد صيته وكان قد ملك نصيبين وأخذ سنجار ومعظم بلاد الجزيرة‏.‏ولما أخذت الفرنج دمياط في سنة عشر وست مائة وتوجهت جماعة من ملوك الشام إلى الديار المصرية لاتحاد الملك الكامل وتأخر عنه الملك الأشرف لمنافرة كانت بينهما فجاءه أخوه الملك المعظم وأرضاه ولم يزل يلاطفه حتى استصحبه معه فانتصر المسلمون على الفرنج وانتزعوا دمياط من أيديهم عقب وصوله إليها وكانوا يرون ذلك بسبب يمن عزته‏.‏

ولما مات الملك المعظم وتولى ولده الملك الناصر قصده عمه الملك الكامل من الديار المصرية ليأخذ دمشق فاستنجد عمه الملك فحصل الاتفاق على تسليم دمشق إلى الملك الأشرف ويكون للملك الكامل الناصر الكرك والشويك ونابلس ونيسان وتلك النواحي وينزل الملك الأشرف عن حران والرحا وسروج والرقة ورأس عين وتسلمها إلى الملك الكامل فأقام الملك الأشرف بدمشق‏.‏

ثم جرت أمور يطول ذكرها ووقعت وحشة بين الكامل والأشرف ووافقت الملوك بأسرها الملك الأشرف وتعاهد هو وصاحب الروم وصاحب حلب وصاحب حماة‏.‏

وصاحب حمص وأصحاب المشرق على الخروج على الملك الكامل ولم يبق مع الملك الكامل سوى ابن أخيه الملك الناصر صاحب الكرك فإنه توجه إلى خدمته بالديار المصرية فلما اتفقوا وعزموا على الخروج على الملك الكامل مرض الملك الأشرف مرضاً شديداً وتوفي بدمشق ودفن بقلعتها ثم نقل إلى القرية التي أنشئت له بالكلاسة في الجانب وتوفي بدمشق ودفن بقلعتها ثم نقل إلى القرية التي أنشئت له بالكلاسة في الجانب الشمالي من جامع دمشق وكانت ولادته سنة ثمان وسبعين وخمس مائة وكان سلطاناً كريماً حليماً واسع الصدر كريم الأخلاق كثير العطاء لا يوجد في خزانته شيء من المال مع اتساع مملكته ولا يزال عليه الديون للتجار وغيرهم وطرب ليلة في مجلس أنسه على بعض الملاهي فقال لصاحب الملاهي تمن علي فقال‏:‏ تمنيت مدينة خلاط فأعطاه إياها فتوجه لقبضها من النائب فعوضه عنها النائب جملة كثيرة من المال وله غرائب كثيرة وكن يميل إلى أهل الخير والصلاح ويحسن الاعتقاد فيهم وبنى بدمشق دار حديث وفوض تدريسها إلى الشيخ أبي عمرو بن صلاح وله مآثر حسنة كثيرة وقد مدحه أعيان شعراء عصره وخلدوا مدائحه في دواوينهم وكان محبوباً إلى الناس مسعوداً مؤيداً في الحروب لقي أرسلان شاه صاحب الموصل وكان من الملوك المشاهير وتواقعاً فكسره الملك الأشرف واتسعت مملكته حين توفي أخوه الملك الأوحد فأخذ مملكته وبسط العدل على الناس وأحسن إليهم إحساناً لم يعهده ممن كان قبله وعظم وقعته في قلوب الناس وبعد صيته وجرت له مع صاحب الروم وابن عمه الملك الأفضل وقائع مشهورة‏.‏وفيها توفي أبو المحاسن يوسف بن إسماعيل المعروف بالشفا كان أديباً فاضلاً متفنناً بعلم العروض والقوافي شاعراً يقع له في النظم معان بديعة في البيتين والثلاثة وله ديوان شعر كبير يدخل في أربع مجلدات‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وكان حسن المحاورة مليح الإيراد مع السكون جميل التأني‏.‏

وأنشدته يوماً في أثناء مناشدته لي قول شرف الدين أبي المحاسن المعروب بابن عنين‏:‏ مال ابن سارة دونه لعفاته خرط القتادة أو مثال الفرقد كان لزوم الجمع يمنع صرفه في راحة مثل المنادى المفرد فقال‏:‏ هذا ليس يجيد فقلت‏:‏ ولم قال‏:‏ ليس من شرط المنادي المفرد أن يكون مضموماً فقد يكون المنادي مفرداً ولا يكون مضموماً بأن يكون نكرة معين كما تقول‏:‏ يا رجلاً ولكن أنا أعمل شيئاً في هذا‏.‏قال‏:‏ ثم اجتمعنا بعد ذلك في الجامع فقال‏:‏ قد عملت في ذلك المعنى بيتاً لنا خليل له خلال تعرب عن أصله الأخس أضحت له مثل حيث كف وددت لو أنها كأمس قلت‏:‏ يعني أن كفه مضمومة مثل حيث مضمومة بالبناء لأجل بخله فليتها مكسورة العظم كأمس المكسور بالبناء والنظم الأول قد بالغ في وصفه بالبخل لتشبيهه وصول العفاة إلى ماله بخرط القتاد في الصعوبة وكمثال الفرقد في البعد والعفاة الطلاب جمع عاف وشبه ماله في البيت الثاني في عدم صرفه إلى غيره بصيغة منتهى الجموع في عدم صرفه في لأعراب كمساجد ودراهم وشبه راحته في كونها مضمومة لا يبسطها للبذل بالمنادى المفرد المبني على الضم مصل يا زيد ويا رجل لرجل بعينه‏.‏

واعترض عليه صاحب النظم الثاني بكون المفرد قد لا يكون مضموماً مثل قول لأعمى‏:‏ يا رجلاً خذ بيدي لرجل لا بعينه ثم اعترض ابن خلكان على المعترض بما سيأتي ذكره‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ فقلت له وهذا أيضاً فيه كلام فقال‏:‏ وما هو فقلت‏:‏ حيث فيها لغات آخر فمن العرب من بناها على الضم ومنهم من بناها على الفتح ومنهم من بناها على الكسر وفيها لغات أخر غير هذه وأما أمس فمنهم من بناها على الكسر ومنهم من يقول‏:‏ إنها اسم معرب لكنه لا ينصرف وأنشدوا على هذه اللغة‏.‏

قلت‏:‏ هذا إذا كانت أمس نكرة فإن كانت معرفة أعربت قولاً واحدًا قال فسكت‏.‏

وفيها توفي الملك الكامل أبو المعالي محمد ابن الملك العادل كان سلطاناًمعظمًا جليل القدر محترماً جميل الذكر مكرمًا للعلماء متمسكاً بالسنة حسن الاعتقاد معاشر الأرباب الفضائل حازماً في أموره لا يضع الشيء إلآ في محله من غير إسراف ولا اقتتار وكان يبيت عنده كل ليلة جمعة جماعة من الفضلاء ويشاركهم في مباحثات ويسألهم عن المواضع المشكلات من كل فن وهو معهم كواحد منهم وبنى بالقاهرة دار حديث ورتب لها وقفًا جيدًا وكان قد بنى على ضريح الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قبة عظيمة ودفن أمه عنده وأجرى إليها من ماء النيل ومدده بعيد وغرم على ذلك جملة عظيمة‏.‏

ولما مات أخوه الملك المعظم عيسى الملقب بشرف الدين صاحب الشام وأقام ولده الملك الناصر صلاح الدين داود مقامه خرج الملك الكامل من الديار المصرية قاصدًا أخذ دمشق منه وجاء أخوه الملك الأشرف مظفر الدين موسى فاجتمعا على أخذ دمشق وقد تقدم ذكر ذلك وأنه دفعها إلى أخيه الملك الأشرف وأخذ عوضها من بلد المشرق عدة بلدان تقدم ذكرها وتقدم أيضاً أنه لما مات الملك الأشرف جعل ولي عهده أخاه الملك الصالح إسماعيل فقصده الملك الكامل وانتزع منه دمشق بعد مصالحة جرت بينهما‏.‏

ولما ملك الملك الكامل البلاد الشرقية واستخلف بها ولده الملك الصالح أبا المظفر أيوب واستخلف ولده الأصغر الملك العادل بالديار المصرية وكان قد سير الملك العادل الملك المسعود إلى اليمن وكان أكبر أولاد الملك الكامل وقد تقدم ذلك وأنه ملك الحجاز مضافة إلى اليمن‏.‏

ولما وصل الخطيب إلى ذكر الكامل قال‏:‏ صاحب مكة وعبيدها واليمن وزبيدها ومصر وصعيدها والشام وصناديدها والجزيرة ووليدها سلطان القبلتين ورب العا متين وخادم الحرمين الشريفين أبو المعالي محمد الملك الكامل ناصر الدين خليل أمير المؤمنين‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ ولد رأيته بدمشق في سنة ثلاث وثلاثين وست مائة عند رجوعه من بلاد الشرق وفي خدمته يومئذ بضعة عشر ملكاًمنهم أخوه الملك الأشرف‏.‏ولم يزل في علوشأنه وعظم سلطانه إلى أن مرض بعد أخذ دمشق ولم يزل مريضًا إلى أن توفي يوم الأربعاء بعد العصر ودفن في القلعة بمدينة دمشق يوم الخميس الثاني والعشرين من رجب السنة المذكورة‏.‏

قال‏:‏ وكانوا قد أخفوا موته إلى وقت صلاة الجمعة فلما دنت الصلاة قام بعض الدعاة على العرش الذي بين يدي المنبر فترحم علىالملك الكامل ودعا لولده الملك العادل ابن الملك الكامل صاحب مصر فضج الناس ضجة واحدة وكانوا قد أحسواوترتب ابن أخيه الملك الجواد مظفر الدين يونس في ثياب السلطنة بدمشق عن الملك العادل ابن الملك الكامل صاحب مصر باتفاق الأمراء الذين كانوا حاضرين ذلك ثم بنى له تربة مجاورة للجامع ولها شباك إلى الجامع ونقل إليها وكان عمره نحواًمن أربعين سنة وأقام ولده الملك العادل في المملكة إلى سنة سبع وثلاثين ثم قبض عليه أمراء دولته وطلبوا أخاه الملك الصالح أيوب فجاءهم ومعه الملك الناصر صاحب الكرك ودخلا القاهرة وأدخل الملك العادل في محفة وحوله جماعة كثيرة من الأجناد يحفظونه وحمله إلى القلعة واعتقله بها وسط العدل في الرعية وأحسن إلى الناس وأخرج الصدقات وأصلح ما تهدم من المساجد وأقام في المملكة إلى أن توفي في سنة سبع وأربعين وست مائة وكان قد أخذ دمشق من عمه الملك الصالح وأبقى عليه بعلبك فلما توفي أخفي موته مقدار ثلاثة أشهر والخطبة باسمه إلى أن وصل ولده الملك المعظم من بلاد الشام فعند ذلك أظهروا موته وخطب لولده المذكور وبنى له تربة بالقاهرة إلى جنب مدرسته ونقل إليها سنة ثمان وأربعين وأمه جارية مولدة سمراء اسمها ورد الندى وتوفي العادل في الاعتقال سنة خمس وأربعين وست مائة وكان له ولد يقال له‏:‏ الملك المغيث نقله الملك المعظم إلى الشويك ثم بعد الملك المعظم استولى على الكرك والشويك وتلك النواحي ولم يزل مالكها إلى زمن الملك الظاهر فراسله وبذل له عن تسليم البلد أعواضًاكثيرة وحلف له حتى إذا نزل إليه‏.‏

إلى منزله في الغور قبض عليه وجهزه إلى قلعة الجبل بمصر واعتقله بها وكان آخر العهد به وكان للمغيث ولد يلقب بالقرين صغير السن فنصبه الملك الظاهر أميرًا ولم يزل في خدمته إلى أن فتح انطاكية ثم قبض عليه واعتقله في القلعة المذكورة وكان الملك الظاهر يبالغ في تحصيل قلعة الكرك ويملؤها بالذخائر والأموال ولما جرى على ولده السعيد ما جرى وتوجه إلى الكرك نفعته تلك الذخائر وكانت عوناً له على زمانه ولما‏.‏

توفي الملك السعيد ابن الملك الظاهر ملكها بعده أخوه الملك المسعود باتفاق من كان بها من مماليك أبيه ومن أمرائه وقال ابن خلكان‏:‏ وهو الآن متملكها ومقيم بها‏.‏

 سنة ست وثلاثين وست مائة

وفيها ضعفت سلطنة الملك الجواد بدمشق بعد أن محق الخزائن وكاتب الملك الصالح أيوب بن الكامل وقابضه فأعطاه دمشق بسنجار وأعانه وكانت صفقة خاسرة فبادر الصالح وتسلم دمشق من الجواد لأن المصريين‏.‏

ألحوا على الجواد في أن ينزل عن دمشق ويعطي الاسكندرية ثم ركب الملك الصالح في المدرسة وحمل الجواد الغاشية بين يديه ثم أكل يديه ندما وسافر وتوجه الصالح نحو الغور وطلب عمه إسماعيل من بعلبك ليتفقا فدبر إسماعيل أمره واستعان بالمجاهد صاحب حمص وهجم دمشق فأخذها فسمعت الأمراء فتوجهت وفيها توفي الشيخ العارف الصالح أبو العباس أحمد بن علي القسطلاني الفقيه المالكي الملقب بزاهد مصر تلميذ الشيخ الكبير العارف بالله الشيهر أبي عبدالله القرشي سمع الحديث وتفقه ودرس بمصر وأفتى وصحب الشيخ المذكور وكان القاري في مواعيده وتزوج بعد موته زوجته السيدة الجليلة الصالحة أم ولده الشيخ قطب الدين الإمام المحدث ثم جاور أبو العباس المذكور بمكة وتوفي بها وقبره معروف يزار في الشعب الأيسر‏.‏

قلت‏:‏ وبلغني أنهم احتاجوا في المدينة الشريفة إلى الاستسقاء وهو بها مجاور فاتفق رأيهم أن يستسقي أهل المدينة يومًا المجاورون يوماً وبدأ أهل المدينة بالاستسقاء فلم يسقوا فعمل هو طعاماً كثيرًا للضعفاء والمساكين واستسقى مع المجاورين فسقوا وله مؤلف جمع فيه كلام شيخه أبي عبدالله القرشي وكلام بعض شيوخه وبعض كراماته‏.‏

وفيها توفي الحافظ الجوال محدث الشام ومفيده أبو عبدالله محمد بن يوسف الإشبيلي الملقب بالزكي سمع بالحجاز ومصر والشام والعراق وأصبهان وخراسان والجزيرة فأكثر وتوفي في رمضان بحماة رحمه الله‏.‏

 سنة سبع وثلائين وست مائة

قد تقدم أن إسماعيل هجم دمشق فملكها وتسلم القلعة من الغد واعتقل الصالح أيوب بالكرك أشهرًا وطلبه أخوه العادل من الناصر داؤد وبذل فيه مائة ألف دينار وكذا طلبه الصالح إسماعيل فامتنع الناصر ثم اتفق معه وحلفه وسار به إلى الديار المصرية فمالت إليه الكاملية وقبضوا على العادل وتملك الصالح أيوب ورجع الناصر‏.‏

وفيها توفي الحافظ المقرىء الحاذق أبو عبدالله محمد بن سعيد المعروف بابن الدبيثي الواسطي الشافعي سمع الحديث وقرأ القراءات وكان إمامًا متفننًا واسع العلم غريز الحفظ وفيها توفي الحافظ المقرىء الحاذق أبو عبدالله محمد بن أبي المعالي سعيد الفقيه الشافعي المؤرخ الواسطي المعروف بابن الدبيثي بضم الدال المهملة وفتح الموحدة وسكون المثناة من تحت وبعدها مثلثة نسبة إلىدبيثا قرية من نواحي واسط سمع الحديث كثيراً وعلق تعاليق مفيدة وكانت له محفوظات حسنة يوردها ويستعملها في محاوراته وكان في الحديث وأسماء رجاله والتاريخ من الحفاظ المشهورين والنبلاء المذكورين وصنف كتابًاجعله ذيلاً على كتاب تاريخ الحافظ أبي سعيد ابن السمعاني المذيل على تاريخ بغدادللخطيب وذكر فيه ما أغفله السمعاني في ثلاث مجلدات وما أقصر فيه وصنف تاريخاً للواسط وغير ذلك وأنشد لنفسه‏:‏ خبرت بني الأيام طراً فلم أجد صديقًا صدوقًا مسعداً في النوائب وما اخترت منهم صاحبًاوارتضيته فأحمدته في فعله والعواقب قلت‏:‏ وهن الأبيات أخذت من أبيات الإمام الشافعي المذكورة في ترجمته وفيها توفي أبو البركات المبارك بن أبي الفتح أحمد بن المبارك الملقب بابن المستوفي اللخمي الإربلي كان رئيسًا جليل القمر كثير التواضع واسع الكرم لم يصل إلى إربل أحدمن الفضلاءإلا وبادر إلى زيارته وحمل إليه ما يليق بحاله وتقرب إلى قلبه بكل طريق وخصوصًاأرباب الأدب فقد كانت سوقهم لديه نافقة وكان جم الفضائل عارفا بعدة فنون منها الحديث وعلومه وأسماء رجاله وجميع ما يتعلق به وكان إمامًا فيه وكان ماهراًفي فنون الأدب من النحو واللغة والعروض والقوافي وعلم المعاني وأشعار العرب وأخبارها وأيامها ووقائعها وأمثالها وكان بارعاًفي علم الديوان وضبطه وحسابه وضبط قوانينه علىالأوضاع المعتبرة عندهم وجمع لإربل تاريخاًفي أربع مجلدات وله كتاب النظام في شرح شعر المتنبي وأبي تمام في عشر مجلدات وكتاب إثبات المحصل في نسبة أبيات المفصل في مجلدين تكلم فيه على الأبيات التي استشهد بها الزمخشري في المفصل و كتاب سر الصنعة وكتاب سماه أبا حماش جمع فيه أدباً كثيرًا ونوادر وغيرها‏.‏

وديوان شعر أجاد فيه ومن شعره بيتان فضل فيهما البياض على السمرة وهما‏:‏ فالرمح يقتل بعضه من غيره والسيف يقتل كله من نفسه قلت‏:‏ ولي أبيات في تفصيل لون البياض على غيره منها قولي‏:‏ إذا الغانيات البيض يومًاتفاخرت بألوانها فاحكم فأنت خبير فأبيضهاسلطانها ثم أصفر لسلطانها يتلو علاه وزير وإن رام تقليد الإمارة أهلها فأسمرها الميمون ذاك أمير وأحمرها جندلها قل وسايس لها أسود دون الجميع حقير فإن قيل‏:‏ لم فضلت للبيض رافعًا ولم قلت ماللبيض قط نظير فقل ذا لأن الحور بيض لها كسا بأحسن ألوان الجمال قدير وأيضًا فلون البيض باهج حسنة يحاكيه بدر في السماء منير رجعنا إلى ذكر ابن المستوفي وأرسل إلى شاعر وصل إلى إربل دنياراً مثلوماً مع إنسان يقال له‏:‏ الكمال فتوهم الشاعر أن الملك قد فرض قطعة من الدينار فقصد استعلام الحال من أبي البركات المذكور فكتب إليه‏:‏ ياأيها المولى الوزير ومن به في الجود حقًا يضرب الأمثال فأعجبه هذا المعنى وحسن الاتفاق فأجاز الشاعر وأحسن إليه‏.‏

وكان مستوفي الديوان وهي منزلة عليه في تلك البلاد تتلو الوزارة ثم تولى الوزارة بعد ذلك وشكرت سيرته فيها ولم يزل عليها إلى أن مات السلطان مظفر الدين فقعد في بيته في تلك البلاد والناس يلازمون خدمته وكان عنده من الكتب النفيسة شيء كثير ثم توفي بالموصل‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وهو من بيت كبير وأبوه تولى الاستيفاء بإربل وعمه أبو الحسن كان فاضلاً وهو الذي نقل نصيحة الملوك تصنيف الإمام حجة الإسلام أبي حامد الغزالي من اللغة الفارسية إلى اللغة العربية فإن الغزالي لم يضعها إلا بالفارسية وذلك مشهور بين الناس ولما توفي رثاه يوسف بن القيس الإربلي بقوله‏:‏ أبو البركات لو درت المنايا بأنك فرد عصرك لم تصبكا كفى الإسلام رزأ فقد شخص عليه بأعين الثقلين يبكى وفيها توفي أبو الفتح نصر الله بن أبي الكرم الملقب ضياء الدين محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني المعروف بابن الأثير الجزري العلامة الكاتب البليغ صاحب المثل السائر انتهت إليه رياسة الإنشاء أتترسل وكان مولده بجزيرة ابن عمر ونشأ بها وانتقل مع والده إلى الموصل وبها اشتغل وحصل العلوم وحفظ كتاب الله الكريم وكثيراً من الأحاديث النبوية وطرفًا صالحًا من النحو واللغة وعلم البيان وشيئًا كثيرًا من الأشعار وكان من جملة محفوظاته شعر أبي تمام والبحتري والمتنبي قال‏:‏ حفظت هذه الدواوين الثلاثة وكنت أكرر عليها بالدرس مدة سنين حتى تمكنت من صوغ المعاني وصار الإدمان لي خلقًا وطبعاً وقد كنت حفظت من الأشعار القديمة والمحدثة ما لا أحصي ثم اقتصرت عليه على أشعار الثلاثة المذكورين‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ ولما كملت له الأدوات قصد جناب الملك الناصر صلاح الدين وكان يومئذ شاباً فاستوزره ولده الملك الأفضل وحسنت حاله عنده‏.‏

ولما توفي السلطان صلاح الدين واستقل ولده المذكور بمملكة دمشق اشتغل ابن الأثير بالوزارة وردت إليه أمور الناس وصار الاعتماد في جميع الأحوال عليه ولما أخذت دمشق من الملك الأفضل وكان ابن الأثير قد أساء العشيرة مع أهلها فهموا بقتله فأخرجه الحاجب محاسن مستخفيًا في صندوق مقفل عليه ثم صار إليه وصحبه إلى مصر لما استدعي لنيابة أخيه الملك المنصور‏.‏ولما أخذ الملك العادل الديار المصرية خرج ابن الأثير منها مستترًا وله في كيفية خروجه رسالة طويلة شرح فيها حاله ولما استقر الملك الأفضل غاب عن مخدومه الملك الأفضل ثم بعد ذلك اتصل بخدمة أخيه الملك الظاهر صاحب حلب فلم يطل مقامه عنده وخرج مغاضبًا وعاد إلى الموصل فلم يستقم حاله فورد إربل فلم يستقم حاله فسافر إلى سنجار ثم عاد إلى الموصل واتخذها دار إقامته إلى أن توفي وله من التصانيف الدالة على غزارة فضله كتابه المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر وهو في مجلدين جمع فيه فأوعب ولم يترك شيئًا يتعلق بفن الكتابة إلا ذكره وكتاب الوشي المرقوم في حل المنظوم وهو مع وجازته في غاية الحسن والإفادة وكتاب المعاني المخترعة في صناعة الإنشاء وهو أيضاً نهاية في بابه وله مجموع أخبار فيه شعر أبي تمام والبحتري وديك الجن والمتنبي في مجلد واحد كبير وحفظه مفيد‏.‏قال ابن المستوفي‏:‏ نقلت من خطه في آخر هذا الكتاب ما مثاله‏:‏‏.‏

تمتع به علقًا نفيسًا فإنه ** اختيار بصير بالأمور حكيم

أطاعته أنواع البلاغة فاعتدى ** إلى الشعر من نهج إليه قويم

وله ديوان شعر ترسل في عدة مجلدات والمختار منه في مجلد واحد‏.‏

قال‏:‏ وذكر ابن خلكان له رسالة كتبها إلى محذومة بليغة البلاغة إلا أن في بعض ألفاظها ما بالغ فيه بما لا ينبغي أن يقال‏:‏ وكم من قول أدى إلى تكفير صاحب المقال ومن جلة ألفاظه ما يملأ الوادي بمائة ومايملأالنادي بنعمائه فإنه وإن أراد المطر الذي نزل فقد احتقر فيض الله عز وجل وقد نظمت أبياتًا ردوا تبكيتا لقائل من قال هذا القول الآتي أو ما يجري مجراه نعوذ بالله من الخروج إلى ما لا يرضاه وهو هذا‏:‏ فنوال كفك بدرة در ونوال الغمام قطرة ماء وكذا قول بديع الزمان‏:‏ وكاد يحكيك صوب الغيث منسكبًا لو كان طلق المحيا يمطر الذهبا والدهرلو لم يخن والشمس لونطقت والليث لو لم يصدو البحر لو عذبا قال ابن خلكان‏:‏ ولابن الأثير المذكور كل معنى مليح في الترسل وكان يعارض القاضي الفاضل في رسائله فإذا أنشأ رسالة أنشأ مثلها وكانت بينهما مكاتبات ومجاوبات ولم يكن له في النظم شيء حسن ومن رسائله قوله في صفة نيل مصر وعذب رضائه يضاهي حتى النحل واحمر صفيحة فعلمت أنه قتل المحل وهو معنى بديع غريب نهاية في الحسن لم أقف لغيره على أسلوبه ثم إني وجدت هذا المعنى لبعض العرب وقد أخذه ضياء الدين منه وهو قوله‏:‏ لله قلب ما يزول يروعه برق الغمامة منجدًا ومغورا ما احمر في الليل البهيم صفيحة متجردًا إلا وقد قتل الكرى وقتل بالقاف والمثناة من فوق قال‏:‏ وكأن هو وأخوه مجد الدين أبو السعادات المبارك وأبو الحسن علي الملقب عز الدين كلهم نجباء رؤساء لكل واحد منهم تصانيف نافعة‏.‏

وفيها توفي أبو الحسن علي بن أحمد التجيبي المرسي كان متفننًا عارفًا بالنحو والعلوم والكلام والمنطق سكن حماة قال الذهبي‏:‏ وله تفسير عجيب‏.‏

 سنة ثمان وثلاثين وست مائة

فيها سلم الملك الصالح إسماعيل قلعة السقيف للفرنج لغرض في نفسه فمقته المسلمون وأنكر عليه الإمام عز الدين بن عبد السلام وأبو عمر ابن الحاجب فسجنهما وعزل ابن عبد السلام من خطابة دمشق وفيها ولي القضاء الرفيع الجيلي‏.‏

وفيها توفي محيي الدين ابن العربي أبو بكر محمد بن علي الطائي الحاتمي المرسي الصوفي نزيل دمشق صاحب التصانيف قلت‏:‏ هذه ترجمة الذهبي ثم زاد قال‏:‏ قدوة القائلين بوحدة الوجود ولد سنة ستين وخمس مائة روىعن ابن بشكوال وطائفة وتنقل إلى البلاد وسكن الروم مدة ثم قال‏:‏ وقد اتهم بأمر عظيم‏.‏

قلت‏:‏ فترجمته هذه وكلامه فيها إشارة إلى ما يعتقد فيه كثير من الفقهاء من الطعن العظيم والقدح وبضد ذلك مدح طائفة من الصوفية له وقليل من الفقهاء فحموه تفخيماً عظيماً ومدحوا كلامه مدحاً كريمًا ووصفوه بعلو المقامات وأخبروا عنه ما يطول ذكره من الكرامات وله أشعار لطيفة غريبة وأخبار ونوادر طريفة عجيبة وأعظم ما يطعن الطاعنون فيه بسبب كتابه الموسوم بفصوص الحكم وبلغني أن الإمام العلامة ابن الزملكاني شرح كتابه المذكور ووجهه توجيهًا نفى عنه ما يظن من المحظور ويخشى من الوقوع في المحذور‏.‏وأخبرني بعض العلماء الصالحين ممن له ذوق وفهم حميدان كلام ابن العربي المذكور له تأويل بيعد وقد قيل‏:‏ إنه اجتمع هو والإمام شهاب الدين السهروردي ونظر كل واحد إلى صاحبه وافترقا من غير كلام فسئل عن الشيخ شهاب الدين فقال‏:‏ مملوسنة من قرنه إلى قدمه وسئل عنه شهاب الدين فقال‏:‏ بحر الحقائق قلت‏:‏ وقد ذكرت له في بعض كتبي أن كل من اختلف في تكفيره فمذهبي فيه التوقف ووكول أمره إلى الله تعالى‏.‏

سنة تسع وثلاثين وست مائة وفيها توفي الإمام النحوي أحمد بن الحسين المعروف بابن الخباز الإربلي ثم الموصلي الضرير صاحب التصانيف الأدبية

وفيها توفي القاضي العلامة الملقب عماد الدين المكنى أبو المعالي عبد الرحمن بن مقبل الواسطي الشافعي وفيها توفي الإمام العلامة أبو الفتح الملقب بالكمال موسى بن يونس الموصلي الشافعي أحد الأعلام ولد سنة احدى وخمسين بالموصل وتفقه على والده وببغداد على معيد النظامية السديد السلماسي وبرع عليه في علم الأصول والخلاف وقرأ النحو على ابن سعدون القرطبي والكمال الأنباري وأكب على الاشتغال بالعقليات حتى بلغ فيها الغايات وكان يتوقد ذكاء ويموج بالحلوم حتى قيل‏:‏ إنه كان يتفنن في العلوم فنونًا كثيرة اشتهر ذكره وطار خبره ودخلت الطلبة إليه من الأقطار وتفرد باتقان علم الرياضي قيل‏:‏ ولم يكن له في وقته نظير هذا ما ذكره الذهبي‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح يبالغ في الثناء عليه ويعظمه فقيل له يومًا‏:‏ من شيخه فقال‏:‏ هذا الرجل خلفه الله عالماً لا يقال على من اشتغل وهو أكبر من هذا وله عدة تصانيف‏.‏

وقال ابن خلكان‏:‏ وكان الفقهاء يقولون‏:‏ إنه يدري أربعة وعشرين فنًا دراية متقنة فمن ذلك علم المذهب وكان فيه أوحد زمانه وكان جماعة من الحنفية يشتغلون عليه في مذهبهم ويحل لهم مسائل الجامع الكبير أحسن حل مع ما هو عليه من الأشكال المشهور وكان يتقن فني الخلاف العراقي والبخاري وأصول الفقه وأصول الدين‏.‏

ولما وصلت كتب الإمام فخر الدين الرازي إلى الموصل وكان بها إذ ذاك جماعة من الفضلاء لم يفهم أحد منهم اصطلاحه فيها سواه وكان يدري فن الحكمة والمنطق والطبيعي والإلهي وكذلك الطب ويعرف فنون الرياضة من اقليدس والهيئة والمخروطات والمتوسطات والمجسطي وأنواع الحساب المفتوح منه والجبر والمقابلة والارثماطيقي بالمثناة من فوق قبل الألف ومن تحت قبل القاف وطريق الخطاءين والموسيقى بكسر القاف والمساحة معرفة لا يشاركه فيها أحد إلا في ظواهرها دون دقائقها والوقوف على حقائقها واستخرج في علم الأوفاق طرفا لم يهتد إليها أحد وكان يبحث في العربية والتصريف بحثاً تاماً حتى إنه كان يقرئ مستوفي كتاب سيبويه والإيضاح وتكملته للفارسي ومفصل الزمخشري وكان له في التفسير والحديث وأسماء الرجال وما يتعلق به يد جيدة وكان يحفظ من التواريخ وأيام العرب ووقائعهم والأشعار والمحاضرات شيئًا كثيرًا‏.‏

وكان أهل الذمة يقرؤون عليه التوراة والإنجيل ويشرح هذين الكتابين لهم شرحًا يعترفون أنهم لا يجدون من يوضحها لهم مثله‏.‏

قلت‏:‏ هكذا ذكر عنه ومثل هذا معلوم أنه حرام وباطل وذلك لوجوه أحدها إقراء كتب منسوخة ومبدلة باطل حكمها لا تصح العمل بها والثاني مؤانسة لأعداء الله ومجانسة لهم مع وجوب مقاطعتهم والبغض لهم والثالث إغراؤه لهم على الاشتغال والعمل بما فيها وقد نص أئمتنا على أنها تتلف قال‏:‏ وكان في كل فن من الفنون المذكورات كأنه لم يعرف سواه لقوته فيه‏.‏

قال‏:‏ وبالجملة فإن مجموع ما كان يعلمه من العلوم لم يسمع من أحد ممن تقدمه أنه كان قد جمعه حتى حكي عن أثير الدين ابن الأبهري صاحب التعليقة في الخلاف والزيج والتصانيف المشهورة أنه قال‏:‏ ما دخل إلى بغداد مثله‏.‏قال ابن خلكان‏:‏ وكان قد اشتغل عليه حينئذ بشيء من الخلاف فقلت له‏:‏ يا سيدي كيف تقول كذا قال‏:‏ يا ولدي ما دخل إلى بغداد مثل أبي حامد الغزالي وما بينه وبينه نسبة وأقسم على ذلك‏.‏

قال‏:‏ وكان الأثير على جلالة قدره في العلوم يأخذ الكتاب ويجلس بين يديه ويقرأ عليه والناس إذ ذاك يشتغلون في تصانيف الأثير قال‏:‏ ولقد شاهدت هذا بعيني انتهى‏.‏

قلت‏:‏ هيهات أن يلحق بحجة الإسلام وعلم العلماء الأعلام والذي باهى به نبينا موسى وعيسى عليه وعليهما أفضل الصلاة والسلام والذي إقحام الفرق عنده أيسر من شرب الماء من الموحدين والملحدين والحكماء‏.‏

إمام الهدى المنبني على الفضل منشدا سبوقًا على المهر الأغر المحجل سنة أربعين وست مائة فيها توفي صاحب المغرب الرشيد أبو محمد ابن المأمون صاحب مراكش والمستنصر بالله أبو جعفر منصور بن الظاهر بأمر الله محمد العباسي كان محمود السيرة فلما توفي بويع ولده المعتصم بالله‏.‏

وفيها توفيت جمال النساء بنت أحمد بن أبي سعيد الغراف بالغين المعجمة والراء والفاء البغدادية سمعت من غير واحد من الشيوخ‏.‏

 سنة إحدى وأربعين وست مائة

فيها حكمت التتار على بلد الروم وألزم صاحبها ابن أخيه علاء الدين بأن يحمل لهم كل يوم ألف دينار ومملوكاً وجاريةً وفرساً وكلب صيد‏.‏

وفيها توفي السلطان ابن محمود البعلبكي صاحب الأحوال والكرامات أحد أصحاب الشيخ عبدالله اليونينى بالمثناة من تحت مكررة قبل الواو وبين النونين وياء للنسبة‏.‏

وفيها توفيت أم الفضل كريمة بنت عبد الوهاب القرشية الزبيرية مسندة الشام روت كثيراً عن جماعة وأجاز لها خلق كثير منهم أبو الوقت السجزي وغيره‏.‏

وفيها توفي الجواد الذي تسلطن بدمشق بعد الملك الكامل وكان جوادًا من أمرائه‏.‏

 سنة اثنتين وأربعين وست مائة

فيها طلب الملك الصالح أيوب الخوارزمية وطلبهم من الجزيرة فعدوا الفرات وندبهم لمحاصرة عمه إسماعيل بدمشق واستنجد إسماعيل بالفرنج وبصاحب حمص فساقت الخوارزمية واجتمعت بعسكر مصرفي غرة وجاءتهم الخلع والنفقات والثياب وبعث الناصر داؤد عسكره من الكرك نجدة لإسماعيل ثم وقع المصاف بقرب عسقلان فانتصر المصريون والخورزمية على الشاميين والفرنج واستحر القتل في الفرنج وأسرت ملوكهم وخاف إسماعيل وحصن دمشق واستعد‏.‏وفيها توفي أبو البركات محمد بن الحسن الأنصاري الحموي المعروف بالنفيس سمع بمكة من عبد المنعم الغوراني‏.‏

وفيها توفي شيخ الشيوخ عبدالله ويقال له‏:‏ أيضًا عبد السلام الجويني الصوفي المعروف بتاج الدين ابن حمويه سمع من شهدة رضي الله عنها والحافظ أبي القاسم ابن عساكر‏.‏

وفيها توفي حاطب بن عبد الكريم الحارثي عاش خمسًا وتسعين سنة وروى عن الحافظ ابن سنة ثلاث وأربعين وست مائة فيها وقيل‏:‏ قبلها حاصرت الخوارزمية دمشق وعليهم الصاحب معين الدين واشتد الخطب وأحرقت الحواصل ورمى بالمجانيق من الفريقين وبعث الدمشقيون بالصالح إسماعيل في ولايته وضاقوا من القحط والخوف والوباء ما لا يعبر عنه وأدام الحصار خمسة أشهر إلى أن أضعف إسماعيل وفارق دمشق وتسفهما الصاحب معين الدين فغضب الخوارزمية من الصالح ونهبوا داريا وترحلوا أو أرسلوا الصالح إلى بعلبك وصاروا معه وردوا فحاصروا دمشق وتلك الأيام كان الغلاء المفرط حتى بلغت الغرارة بدمشق بألف وست مائة درهم وأكلت الجيف وتفاقم الأمر مع الخمور والفواحش‏.‏

وفيها توفي أبو البقاء موفق الدين بن يعيش بن علي الموصلي الأصل الحلبي المولد والمنشأ النحوي قرأ النحو على أبي السخاء الحلبي وأبي العباس المغربي التبريزي وسمع الحديث على أبي الفضل عبدالله بن أحمد الخطيب الطوسي بالموصل وعلي بن السويد التكريتي ويحلب على أبي الفرج يحيى بن محمود الثقفي والقاضي أبي الحسين الطوسي وغيرهم وكان فاضلاً ماهرًا في النحو والتصريف واجتمع في دمشق بالشيخ تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي الإمام المشهور وسأله عن مواضع مشكلة في العربية وعن إعراب ما ذكره الحريري في المقامات العاشرة المعروفة بالرحبية وهو قوله في آخرها‏:‏ وحتى إذ لألأ الأفق ذنب السرحان وآن ابتلاج الفجر وحان فأستبهم جواب هذا المكان على الكندي‏:‏ هل الأفق وذنب السرحان مرفوعان أو منصوبان أو الأفق مرفوع وذنب السرحان منصوب أو على العكس وقال له‏:‏ قد علمت قصدك وأنك أردت إعلامي بمكانك من هذا العلم وكتب له بخطه بمدحه والثناء عليه ووصف تقدمه في الفن الأ د بي‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وهف‏!‏ المسألة يجوز الأمور الأربعة فيها والمختار منها نصب الأفق ورفع ذنب السرحان قلت‏:‏ يعني ابن خلكان أن الأفق مفعول وفعله لألأ وفاعله ذنب وأما السرحان مخفوض بالإضافة إليه والمراد بذنب السرحان الفجر الأول الكاذب فإنه مشبه به في طوله في السماء بخلاف الفجر الصادق فإنه مشبه بجناحي الطائر لانتشاره يميناً وشمالاً وهو الذي أشار إليه من الإعراب من كونه المختار هو الذي ظهر لي وبادر إليه فهمي أول وقوفي على هذه المسألة قبل الوقوف على السؤال وما يحتمله من الأقوال‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ ولما دخلت إلى حلب لأجل الاشتغال بالعلم الشريف كان الشيخ موفق الدين شيخ الجماعة وذلك في سنة ست وعشرين وست مائة وهي مشحونة بالعلماء والمشتغلين ولم يكن فيهم مثل الشيخ موفق الدين المذكور فشرعت عليه في قراءة اللمع لابن جني مع سماعي اقراءه الجماعة كانوا قد تنبهوا وتميزوا وكان حسن التفهيم لطيف الكلام طويل الروح على المبتدىء والمنتهي وكان خفيف الروح لطيف الشمائل كثير المجون مع سكينة ووقار‏.‏

ولقد سأله يوما وأنا حاضر بعض الفقهاء عن قول ذي الرمة‏:‏ أيا ظبية الوعساء بين خلاخل وبين النقاء أنت أم أم سالم وكان السائل يقرأ عليه في باب النداء فقال‏:‏ أي شيء في المرأة الحسناء يشبه الظبية بعد أن كان قد شرح الشيخ موفق الدين ذلك وأوضح وجه التشبيه مع شدة محبة الشاعر وولهه لأم سالم المذكورة وعظم وجده بها على عادة الشعراء في تشبيههم بالظباء والمهاء المستحسنات من النساء وأوضح ذلك ايضاحاً يفهمه البليد فلما لم يستحسن السائل المذكور الجواب ولم يتلقه بالقبول ولم يضعه في مركز الصواب بل قال‏:‏ أي شيء في المرأة الحسناء يشبه الظبي قال له الشيخ على وجه الإنبساط‏:‏ لشبهها في ذنبها أو قرونها فضحك الحاضرون فحجل السائل ولم يعد إلى مجلسه قلت‏:‏ وقد شرح مجنون ليلى وجه الشبه في قوله‏.‏

فعيناك عيناها وجيدك جيدها ولكن عظم الساق منك دقيق مخاطبًا للظبية لها ولها كثير من الشواهد وفي ذلك قلت في بعض القصائد‏:‏ إذا مارست لم تخط قط مقاتلاً ولاقودًا يعطي ولا قتلها يدا وفيها توفي الحافظ القدوة أبو العباس أحمد بن عيسى بن الموفق المقدسي الصالحي‏.‏

وفيها توفي العلامة المفتي أبو العباس أحمد بن محمد ابن الحافظ عبد الغني المقدسي‏.‏

وفيها توفي القاضي الأشرف أبو العباس أحمد ابن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني ثم المصري‏.‏

وفيها توفيت الصاحبة ربيعة خاتون أخت صلاح الدين والعادل ودفنت بمدرستها بالجبل‏.‏

وفيها توفي المنتجب ابن أبي العز ابن رشيد الهمداني نزيل دمشق قرأ القراءات على غير واحد من الشيوخ وصنف شرحًا كبيرًا للشاطبية وشرحًا لمفصل الزمخشري وتصدر للإقراء‏.‏

وفيها توفي شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الكردي الشهرزوري المعروف بابن الصلاح كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال وما يتعلق بعلم الحديث ونقل اللغة وكانت له مشاركة في فنون عديدة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وهو أحد أشياخي الذين انتفعت بهم‏.‏

قال‏:‏ كانت فتاواه مسددة قال‏:‏ بلغني أنه درس جميع كتاب المهذب قبل أن يطلع شاربه قرأ على والده الصلاح وكان من جلة مشائخ الأكراد المشار إليهم ثم نقل والده إلى الموصل واشتغل بها مدة وتولى فيها الإعادة عند الشيخ العلامة عماد الدين أبي حامد بن يونس وأقام قليلاً ثم سافر إلى خراسان وأقام بها زمانًا وحصل علم الحديث هناك ثم رجع إلى الشام وتولى بالتدريس المدرسة الناصرية المنسوبة إلى صلاح الدين بالقدس وأقام بها مدة واشتغل الناس عليه وانتفعوا به ثم انتقل إلى دمشق وتولى تدريس الرواحية التي أنشأها الزكي أبو القاسم هبة الله ابن عبد الواحد بن رواحة الحموي ولما بنى الملك الأشرف ابن الملك العادل دار الحديث بدمشق فوض تدريسها إليه‏.‏

اشتغل الناس عليه بالحديث فيها ثلاث عشر سنة وتولى تدريس مدرسة ست الشام زمرد خاتون ابنة أيوب وهي شقيقة شمس الدولة وهي التي بنت المدرسة الأخرى ظاهر دمشق وبها قبرها وقبر أخيها المذكور وزوجها ناصر الدين صاحب حمص وكان ابن الصلاح يقوم بوظائف الجهات الثلاث من غير إخلال بشيء منها إلا لعذر ضروري لا بد منه وكان من العلم والدين على قدم حسن‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وأقمت عنده بدمشق ملازم الاشتغال مدة سنة وصنف في علوم الحديث كتاباً نافعًا مبسوطاً وكذلك في مناسك الحج جمع فيه أشياء حسنة يحتاج إليها وله اشكالات على كتاب الوسيط في الفقه وله طبقات الشافعية اختصره الشيخ محيي الدين النواوي واستدرك عليه جماعة ومن مشاهير شيوخه الفخر ابن عساكر وزير الأمناء ومؤيد الطوسي وابن سكينة وطبرزد وزينب الشعرية وغيرهم وممن تفقه عليه وروى عنه الشيخ شهاب الدين أبو أسامة والإمام تقي الدين ابن رزين قاضي الديار المصرية والعلامة شمس الدين ابن خلكان قاضي البلاد الشامية والكمال ارسلان والكمال إسحاق الشيرازي شيخ النواوي وآخرون إلى أن توفي فشهد جنازته جم غفير وعدد كثير في الجامع وحمل على الرؤوس انتهى وجمع بعض أصحابه فتاواه في مجلد فلم يزل أمره جاريًا على سداد وصلاح حال واجتهاد في الاشتغال بما ذكرنا وبالنحو إلى أن توفي بدمشق في ربيع الآخر من السنة المذكور ودفن في مقابر الصوفية خارج باب ا النصر ومولده سنة سبع وسبعين وخمس مائة‏.‏

وذكر غيره أنه بعد اقامته بالموصل دخل بغداد وطاف البلاد وسمع من خلق كثير وجم غفير ببغداد وهمدان ونيسابور ومرو وحران وغير ذلك ودخل الشام مرتين قال‏:‏ وكان إمامأ بارعاً حجة متبحرًا في العلوم الدينية بصيرًا بالمذهب وأصوله وفروعه له يد طولى في العربية والحديث والتفسير مع عبادة وتهجد وورع ونسك وتعبد وملازمة للخير على طريقة السلف في الاعتقاد وله آراء رشيدة وفتاوى سديدة ماعدا فتياه الثانية في استحباب صلاة الرغائب وله اشكالات على الوسيط ومؤاخذات حسنة وفوائد جمة وتعاليق حسنة وفيها توفي الإمام العلامة علم الدين أبو الحسن علي بن محمد السخاوي الهمداني المقرىء أتقن علم القراءات على الإمام المقرىء المحقق أبي محمد القاسم الشاطبي المشهور بمصر ثم انتقل إلى دمشق وتقدم بها على علماء فنونه وكان للناس فيه اعتقاد عظيم وشرح المفصل للزمخشري في أربع مجلدات وشرح الشاطبية للإمام المذكور وكان قد قرأها عليه وله خطب وأشعار وكان متعينًا في وقته‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ ورأيته بدمشق والناس يزدحمون عليه في الجامع لأجل القراءة ولا يصح لواحد منهم نوبة إلا بعد زمان ورأيته مرارًا ما يركب بهيمة وهو يصعد إلى جبل الصالحين وحوله اثنان أو ثلاثة وكل واحد يقرأ وظيفته في موضع غير موضع الآخر والكل في دفعة واحدة وهو يرد على الجميع‏.‏

ولم يزل مواظبًا على وظيفته إلى أن توفي بدمشق في السنة المذكورة وقد نيف على التسعين ولما حضرته الوفاة أنشد لنفسه‏:‏ قالوا‏:‏ غدًا يأتي ديار الحمى وينزل الركب بمغناهم وكل من كان مطيعًا لهم أصبح مسروراً بلقياهم قلت‏:‏ فلي ذنبي فماحيلتي بأي وجه أتلقاهم قالوا‏:‏ أليس العفو من شأنهم لا سيما ممن يرجاهم وفيها توفي الحافظ الكبير محب الدين أبو عبدالله محمد بن محمود بن الحسن البغدادي المعروف بابن النجار صاحب تاريخ بغداد ولد سنة ثمان وسبعين وخمس مائة ورحل إلى أصفهان وخرسان والشام ومصر وسمع من جماعة وكتب شيئًا كثيرًا وكان ثقة متقناً واسع الحفظ تام المعرفة‏.‏

وفيها توفي المنتجب بن أبي العز بن رشيد أهمداني المقرئ نزيل دمشق قرأ القراءات وصنف شرحاً كبيرًا للشاطبية وشرحًا لمفصل الزمخشري‏.‏

 سنة أربع وأربعين وست مائة

لما اتفق الصالح إسماعيل مع الخوارزمية استمال الصالح أيوب صاحب حمص وأفسده على إسماعيل ثم كتب إلى عسكر حلب يحثهم على حرب الخوارزمية وأنهم قد خربوا الشام فبادر نائب حلب شمس الدين لؤلؤ واجتمع معه صاحب حمص بالغرب والتركمان بعسكر دمشق وأقبل الملك الصالح إسماعيل معه الخوارزمية وعسكر الكرك وصاحب صرخد فالتقى الجمعان على بحيرة حمص فتقل مقدم الخوارزمية وانهزم الصالح ثم تسارت الخوارزمية إلى التلقي واتفق معهم الناصر داؤد فجهز الصالح صاحب مصر جيشاً فكسروا الخوارزمية وساقوا فنازلوا الكرك وتسلموا بعلبك وبصري وأخذوا أولاد إسماعيل إلى القاهرة والتجأ إلى حلب وانقضت دولته وصفت الشام لنجم الدين أيوب فقدمها ودخل دمشق ثم مر إلى بعلبك ومر إلى صرخد وأخذها وأخذ الصينية الملك السعيد بن العزيز وهو ابن عمه ثم مر ببصرى وبالقدس فأمر بعمارة سورها وبصرف مغلها في سورها‏.‏

وفيها توفي الملك المنصور ابن المجاهد أسد الدين صاحب حمص وأن صاحبها واحد الموصوفين بالشجاعة والاقدام مرض ببستان الملك الأشرف بدمشق ومات فنقل إلى حمص ودفن عند أبيه وكان عازمًا على أخذ دمشق ففجأه الموت وقام بعده بحمص ابنه الملك الأشرف موسى‏.‏

وفيها توفي إسماعيل بن علي الكوراني وكان زاهدًا عابدًا قانتًا صادقاً أمارًا بالمعوف نهاءًا عن المنكر ذا غلظة على الملوك ونصيحة لهم‏.‏

 سنة خمس وأربعين وست مائة

فيها أخذ المسلمون عسقلان وأخذوا طبرية قبلها بأيام وفيها أخذ الملك الصالح نجم الدين الصينية من الملك السعيد وعوضه أموالاً وجهز مائة فارس بمصر وفيها نازل عسكر حلب وفيها توفي الكاشغري إبراهيم بن عثمان الزركشي ببغداد سمع من جماعة ورحل إليه الطلبة من الآفاق والجهات وكان اخرمن بقي بينه وبين الإمام مالك خمسة أنفس ثقات وتولى مشيخة المستنصرية‏.‏وفيها توفي الشيخ أبو محمد بن أبي الحسن بن منصور الدمشقي الصوفي ولد بقرية تستر من حوران ونشأ بدمشق وتعلم بها نسج العتابي ثم تصرف وعظم أمره وكثر أتباعه وأقبل على سماعات الصوفية وبالغ فيما يتعاطونه من ذلك فمن يحسن به الظن يقول‏:‏ هو صادق صاحب حال‏.‏أو تمكين ووصال ومن يسيء به الظن يرميه بالزندقة الضلال‏.‏

قلت‏:‏ هذا معنى ما أشار إليه الذهبي وميله فيه إلى ما ذكرت من الوصف الأخير كما هو مذهب أكثر الفقهاء الطعن في كثير من المشائخ فإنه قال‏:‏ ومن خيرأمره نسبه إلى الفضل والكمال ومن قبح أمره رماه بالكفر والضلال ثم قال‏:‏ وهو أحد من لا يقطع عليه بجنة ولا نار فإنا لا نعلم بما ختم له‏.‏

لكنه توفي في يوم شريف يوم الجمعة قبل العصر السادس والعشرين من شهر رمضان وقد نيف على التسعين‏.‏

مات فجأة انتهى كلامه وفيه من التشكك ما فيه من تغليب التكفير وأما عدم القطع المذكور فليس يخرج منه أحد سوى الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ومن شهد له بذلك ولم يزل الفقراء يذكرون عن الشيخ المذكور عجائب من وفيها توفي أبو علي عمر بن محمد الأزدي الأندلسي الاشبيلي النحوي أحد من انتهت إليه معرفة العربية في زمانه وكان بحراً لا يجارى وحبرًا لا يبارى تصدر لإقراء النحو نحواً من ستين عاماً وصنف التصانيف سمع من جماعة من الشيوخ وأجاز له السلفي وأخذ النحو عن غير واحد من النحاة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ ولقد رأيت جماعة من أصحابه كلهم فضلاء وكلهم يقول‏:‏ ما تقاصر الشيخ أبو علي المذكور عن الشيخ أبي علي الفارسي قالوا‏:‏ وفيه مع هذه الفضيلة غفلة وصورة بله في الصورة الظاهرة حتى قالوا‏:‏ إنه كان يومًا على جانب نهر وبيده كراريس فوقعت منه كراسة في الماء وبعدت عنه فلم يصل يده إليها فأخذ كراسة أخرى وجذبها فتلفت أخرىبالماء وكان له مثل هذه الأشياء‏.‏

وشرح المقدمة الجزولية كبيرًا وصغيرًا‏.‏

وله كتاب في النحو سماه التوطئة بالجملة على ما يقال‏:‏ كان خاتمة أئمة النحو‏.‏

وفيها توفي الملك المظفر غازي ابن الملك العادل صاحب فارقين وخلاط وغير ذلك وكان فارساً شجاعًا شهمًا مهيبًا وملكًا جوادًا تملك بعده ابنه الشهيد الملك الكامل ناصر الدين‏.‏فيها توفي الإمام العلامة الفقيه المالكي الأصولي النحوي المقرىء المعروف بابن الحاجب أبو عمرو عثمان بن عمرو الكردي الأسناوي بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وقبل الألف نون ثم المصري صاحب التصانيف المجادة المشتملة على التحقيق والإفادة‏.‏

كان والده حاجباً للأمير عز الدين الصلاحي واشتغل هو في صغره بالقران الكريم ثم بالفقه على مذهب الإمام مالك ثم بالعربية والقراءات وبرع في علومه وأتقنها غاية الإتقان ثم انتقل إلى دمشق ودرس بجامعها في زاوية المالكية واكب الخلق على الاشتغال عليه وتبحر في العلوم‏.‏قيل‏:‏ وكان الغالب عليه علم العربية وصنف مختصرًا في مذهبه ومقدمة وجيزة في النحو وأخرى مثلها في التصريف وشرح المقدمتين وصنف في أصول الفقه‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وكل تصانيفه في نهاية الحسن والإفادة وخالف النحاة في مواضع وأورد عليهم اشكالات والزامات يبعد الاجابة عنها قال‏:‏ وكان من أحسن خلق الله ذهنًا ثم عاد إلى القاهرة وأقام بها والناس ملازمون للاشتغال عليه قال‏:‏ وجاءني مرارًا بسبب أداء شهادات وسألته عن مواضع في العربية مشكلة فأجاب عنها أبلغ اجابة بسكون كثير وتثبت تام ومن جملة ما سألته عنه مسألة اعتراض الشرط على الشرط في قولهم‏:‏ إن أكلت إن شربت لم يتعين تقديم الشرب على الأكل بسبب وقوع الطلاق حتى لو أكلت ثم شربت لم تطلق وسألته عن لقد تصبرت حتى لات مصطبر فالآن أقحم حتى لات مقتحم ما السبب الموجب لخفض مصطبر ومقتحم ولات ليست من أدوات الجر‏.‏

فأطال الكلام فيهما وأحسن الجواب عنهما قال‏:‏ ولولا التطويل لذكرت ما قاله ثم انتقل إلى الاسكندرية للإقامة فلم تطل مدته هناك وتوفي بها ودفن خارج باب البحر بتربة الشيخ الصالح ابن أبي شامة وكان مولده في سنة تسعين وخمس مائة بأسنا رحمه الله انتهى كلام ابن خلكان‏.‏

قلت‏:‏ وبلغني أنه كان محباً للإمام شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام ومصاحبًا له وأنه لما حبسه السلطان كما تقدم بسبب إنكاره عليه‏.‏دخل ابن الحاجب المذكور معه الحبس لموافقته ومراعاة صحبته ولعل انتقاله إلى مصر كان بسبب انتقال الإمام عز الدين المذكور والله أعلم ولكن قد تقدم أن الملك الصالح حبس هذين الإمامين المذكورين معاً لإنكارهما عليه‏.‏

وفيها توفي أن البيطار الطبيب البارع عبدالله بن أحمد المالقي صاحب كتاب الأدوية المفردة انتهت إليه المعرفة بتحيق النبات وصفاته ومنافعه وأماكنه وله خدمة عند الكامل ثم ابنه الصالح توفي بدمشق‏.‏

وفيها توفي ابن صاحب المغرب المعتضد ويقال أيضًا‏:‏ السعيد أبو الحسن علي بن المأمون ادريس ولي الأمر بعد أخيه عبد الواحد وقتل على ظهر جواده وهو محاصر حصنًا بتلمسان وولي بعده المرتضى فامتدت دولته عشرين عامًا‏.‏

وفيها توفي الوزير أبو الحسين علي بن يوسف الشيباني وزير حلب وصاحب التصانيف والتواريخ جمع من الكتب على اختلاف أنواعها ما لا يوصف وكانت تساوي نحوًا من أربعين ألف دينار‏.‏

 سنة سبع وأربعين وست مائة

فيها عمل الأمجد حصناً على أبيه وراح إلى مصر وسلم الكرخ أبي الصالح ونازلت الفرنج دمياط برًا وبحراً وكان بها فخر الدين ابن الشيخ وعسكره فهربوا وملكها الفرنج بلا ضربة ولا طعنة وكان السلطان على المنصورة فغضب على أهلها كيف سيبوها حتى أنه شنق ستين نفسا من أعيان أهلها وقامت قيامته على العسكر بحيث أنهم خافوا منه وهموا به فقال فخر الدين‏:‏ أمهلوه‏.‏

فهو على شفا فمات ليلة نصف من شعبان بالمنصورة وكتم موته أياماً ثم أن مملوكه قطايا بالقاف والطاء المهملة وبين الألفين مثناة من تحت ساق على البريد إلى أن عبر الفرات وساق إلى أن بلغ إلى الملك المعظم‏.‏

ولد الصالح فجاء معه حتى قدم به دمشق فدخلها في دست السلطنة وجرت للمصريين مع الفرنج فصول وحروب إلى أن اتفقت وقعة المنصورة وذلك أن الفرنج حملوا ووصلوا إلى دهليز السلطان فركب مقدم الجيش فخر الدين ابن الشيخ وقاتلها إلى أن قتل وانهزم المسلمون ثم كروا على الفرنج ونزل النصر ولله الحمد فقتل من الفرنج مقتلة عظيمة ثم قدم الملك المعظم بعد أيام‏.‏

وفيها توفي الملك الصالح ابن الملك الكامل ابن الملك العادل كما تقدم وكان وافر الحرمة عظيم الهيبة طاهر الذيل حليفاً للملك ظاهر الجبروت‏.‏

وفيها توفي الأمير نائب السلطنة‏.‏وفيها توفي فخر الدين كما تقدم‏.‏

وفيها توفي أبو الفضل يوسف ابن شيخ الشيوخ صدر الدين محمد بن عمر الجويني ولد بدمشق وسمع من غير واحد طعن يوم المنصورة ووقع ضربتان في وجهه فسقط وكان رئيساً محتشماً سيداً معظمًا ذا عقل ورأي ودهاء وشجاعة وكرم سجنه السلطان سنة أربعين وقاسى شديدًا وبقي في الحبس ثلاث سنين ثم أخرجه وأنعم عليه وقدمه على سنة ثمان وأربعين وست مائة استهلت والفرنج على المنصورة والمسلمون بإزائهم مستظهرين لانقطاع الميرة عن الفرنج ووقوع المرض في خيلهم وعزم ملكهم على السير في الليل إلى دمياط ففهم المسلمون ذلك وكان الفرنج قد عملوا جسرًا من صنوبر على النيل ونسوا قطعه فعبر عليها المسلمون وأحدقوا بهم فتحصنوا بقربة يمينة أبي عبدالله وأخذ أسطول المسلمين أسطولهم أجمع وقتل منهم خلق وطلب ملكهم الطواسي رشيد سيف الدين الضمري فأتوا وكلمهم في الأمان على نفسه وعلى من معه فعقدا له الأمان وانهزم جل الفرنج فحمل عليهم المسلمون ووضعوا فيهم السيف وغنم الناس مالاً لا ينحصر وركب ملك الفرن‏!‏ في حراقة والمراكب الإسلامية محدقة به تخفق بالكووسات والطبول وفي البر الشرقي الجيش سائر تحت ألوية النصر وفي البر الغربي العربان والعوام وكانت ساعة عجيبة‏.‏

واعتقل ملك الفرنج بالمنصورة وكانت الأسرى نيفا وعشرين ألفا فيهم ملوك وكبار الدولة وكانت القتلى سبعة آلاف واستشهد من المسلمين نحو مائة أنفس وخلع الملك المعظم على الكبار من الفرنج خمسين خلعة فامتنع الكلب ملكهم من لبسها وقال‏:‏ أنا مملكتي بقدر مملكة صاحب مصر كيف ألبس خلعته ثم بدت من الملك المعظم خفة أمور خرج عليه بسببها مماليك أبيه فقتلوه وقدموا على عسكر عز الدين التركماني الصالحي وساقوا إلى القاهرة بعد أن استردوا دمياط وذلك أن حسام الدين بن أبي علي أطلق ملك الفرنج على أن يسلم دمياط وعلى بذل خمس مائة ألف دينار للمسلمين فركب بغلة وساق معه الجيش إلى دمياط فما وصلوا إلا وأوابل المسلمين قد ركبوا أسوارها فاصفر لون ملك الفرنج فقال حسام الدين‏:‏ هذه دمياط قد ملكناها والرأي أن لا يطلق هذا لأنه قد اطلع على عوزتنا فقال عز الدين التركماني‏:‏ لا أرى الغدر فأطلقه‏.‏وأما دمشق فقصدها الملك الناصر صاحب حلب واستولى عليها ثم بعد أشهر قصد الديار المصرية ليتملكها فالتقى هو والمصريون بالعباسية فانهزم المصريون ودخل أوائل الشاميين القاهرة وخطب بها الناصر فالتف على عز الدين والفارس قطايا نحو ثلاث مائة من الصالحية وهربوا نحو الشام فصادفوا فرقة من الشاميين فحملوه عليهم وهزموهم وأسروا نائب الملك الناصر وهو شمس الدين لؤلؤ فذبحوه وحملوا على طبل الناصر وكسروه ونهبوا خزائنه وساقوا إلى غرة ودخلت الناصرية الصالحية بأعلام الناصر منكسة وبالأسارى وهم ولد السلطان الكبير صلاح الدين ولذلك الأشرف موسى ابن صاحب حمص والملك الصالح إسماعيل ابن العادل وطائفة وقتل عدة أمراء‏.‏

أسارى الصالحية المذكورين فأخذوه في الليل وأعدموه‏.‏

وفيها توفي الملك المعظم غياث الدين ابن الصالح وتوفي أبوه فحلف له الأمراء وتعدوا وراءه وجرى من كسر الفرنج ما جرى ثم صدرت منه أمور ضربه بسببها مملوك بسيف فتلقاه بيده ثم هرب إلى برج خشب فرموه بالسفط فرمى بنفسه وهرب إلى النيل فأتلفوه وبقي ملقى على الأرض ثلاثة أيام حتى انتفخ ثم واروه وخطب بعده على منابر الإسلام ليتخبر الدرام خليل خطبة والده وزوجته وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكرها‏.‏